الرئيسية » قصص انسانية »
22 أيلول 2025

ذاكرة فصولها دماء الأحبة

بقلم: رائد النمس.

 

في غزة، حين تُدوِّن الذاكرة فصولها بدماء الأحبة، يصبح من العسير أن نُفلت من تفاصيل الألم.

لا أستطيع أن أنسى، ولن أنسى، ما حييت، صوتها المرتجف وهي تتوسل إليَّ عبر الهاتف: "يا أخي، أولادي بيموتوا... رامي بينزف، دخيلك خلّي الإسعاف ييجي!".

كانت زوجة صديقي رامي زعرب، تناديني باسمي من وسط الجحيم، مساء الأحد 30 يونيو/ حزيران 2024. الساعة كانت تشير إلى الثامنة ليلًا، حين قُصف منزلهم في محافظة رفح، ولم يكن في الحسبان أن تلك المكالمة ستكون صرخة الوداع.

رامي، صديقي وزميلي في الحياة، قضى أكثر من تسع ساعات يصارع الموت هو وأطفاله تحت الركام.

ظللت طيلة تلك الليلة، أُجري الاتصالات، أبحث عن طريقة للوصول، أستغيث بكل جهة، أطرق أبوابًا مغلقة، اتحدث الى فريق الإسعاف والطوارئ في الهلال الأحمر الفلسطيني، وأتوسل للجنة الدولية للصليب الأحمر أن تنسّق مع الجيش الإسرائيلي لإدخال طواقم الإسعاف إلى المنطقة.

لكن لا حياة لمن تنادي.

المنطقة كانت مصنفة "حمراء"، أي ممنوع الوصول إليها، والإحداثيات المتكررة التي أرسلناها لم تُجْدِ نفعًا، وبقي رامي ينزف، ينتظر أن تمد له يد الرحمة، لكن الإنسانية تأخرت، كثيرًا.

مع بزوغ الفجر، وتحديدًا الساعة الخامسة صباحًا، تمكّنا أخيرًا من الوصول إلى البيت الذي أصبح جزء منه حطامًا. كان رامي قد فارق الحياة، ومعه أربعة من أطفاله، وحدها زوجته وطفلته الصغيرة نجتا بأعجوبة.

منذ ذلك اليوم، لم أعد أنام كما كنت، الصوت الذي سكن أذنيّ في تلك الليلة لا يفارقني، أنين رامي وهو ينزف، توسلاتها، صدى كلماتها وهي تقول: "رامي بينزف، أولادي بيموتوا، ساعدوني"... ذلك الصوت يوقظني كل ليلة.

أعمل في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وأعرف معنى ألا تستطيع الوصول، أعرف كيف يتحطم المنقذ من الداخل حين يُمنع من إنقاذ حياة، ويُرغم على الانتظار أمام جدران الصمت.

أكتب هذه الكلمات الآن بعد أن تراكمت في داخلي كل مشاعر العجز والخذلان، لم أستطع إنقاذ صديقي، وأنا الذي يفترض أن أكون جزءًا من منظومة الإنسانية.

فأين القانون الدولي الإنساني من هذا؟

أين المادة الثالثة من اتفاقيات جنيف، التي تُلزم الأطراف المتحاربة بتوفير الحماية والرعاية للجرحى؟

أين التنسيق الإنساني الذي تتغنى به المنظمات الدولية؟ وأين تلك التصريحات التي تصدر ليل نهار عن السماح بمرور الإمدادات الطبية، فيما تُمنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى أطفال ينزفون حتى الموت؟

رامي لم يكن مجرد اسم، كان أبًا، وزوجًا، وصديقًا، وإنسانًا من لحم ودم.

 وأطفاله لم يكونوا أرقامًا في نشرة المساء، بل وجوهًا صغيرة كانت تحلم بالحياة، ونامت إلى الأبد على ركام البيت.

أكتب لأجل رامي، ولأجل كل من فقدناهم، لأن الصمت خيانة، ولأن القصة لم تنتهِ.

ولأن صوتها ما زال يصرخ بداخلي: "أنقذونا... أنقذونا".

 

المقابلة على الرابط التالي: /https://thisweekinpalestine.com/the-palestinians-lifeline-in-times-of-crisis